ما هو القانون الرقمي ولماذا أصبح ضرورة في العالم العربي؟
في وقت تتسارع فيه رقمنة الحياة والقضايا التقنية، أصبح الحديث عن “القانون الرقمي” أكثر من مجرد مصطلح عابر، بل ضرورة ملحة، خصوصًا في العالم العربي الذي يشهد تحولات كبيرة في المجال الرقمي. كوني باحثًا مهتمًا بحوكمة التكنولوجيا والحريات الرقمية، أرى في القانون الرقمي حجر الأساس الذي يؤسس لعصر جديد من الحقوق والواجبات، يعكس خصوصيات هذا العصر ويواكب تطلعات شعوبنا.
القانون الرقمي هو الإطار القانوني الذي ينظم العلاقات والأحداث القانونية التي تنشأ في الفضاء الإلكتروني، سواء فيما يتعلق بحماية البيانات الشخصية، الجرائم الإلكترونية، التعاقدات الرقمية، حقوق المستخدمين على الإنترنت، أو تنظيم الذكاء الاصطناعي. بكل بساطة، هو القانون الذي يجعل الرقمنة آمنة ومنظمة، يحفظ الحقوق ويواجه التحديات التي تفرضها التكنولوجيا الحديثة.
في السياق العربي، أصبحت الحاجة للقانون الرقمي ضرورة ملحة لعدة أسباب. أولاً، الانتشار السريع للإنترنت واستخدام التطبيقات الرقمية في الحوكمة، التعليم، التجارة، والخدمات الاجتماعية خلق بيئة جديدة تتطلب تنظيمًا قانونيًا يكفل حماية الأفراد والشركات من الانتهاكات، الاحتيال، والتجسس الإلكتروني. بدون قواعد واضحة، يصبح المستخدم عرضة لفوضى قد تصل إلى سرقة الهوية، الابتزاز، أو تدمير السمعة.
ثانيًا، تشهد البلدان العربية تزايدًا في أعداد المستخدمين الرقميين وحجم البيانات الضخمة التي يتم توليدها، مما يجعل حماية الخصوصية ودعم الحقوق الرقمية من الأولويات. القانون الرقمي في هذا الإطار ليس فقط أداة تنظيم، بل هو حماية لكرامة الإنسان في العصر الرقمي، وضمان لحرية التعبير وللعلاقات التعاقدية عبر الإنترنت بطريقة عادلة وشفافة.
ثالثًا، مع بروز أنظمة الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها، تبدأ الدول العربية بطرح تحديات جديدة تتطلب لأطر قانونية حديثة. فمثلًا، استخدامات الذكاء الاصطناعي في قطاع الصحة، العدالة أو الخدمات العامة تحتاج لوائح تضمن السلامة، الشفافية، وعدم التمييز. القانون الرقمي إذًا يصبح قاعدة تعيّن المساءلة وتضع حدودًا واضحة بين ما هو مسموح وممنوع.
رابعًا، القانون الرقمي يعزز من تنافسية الدول العربية في السوق الرقمية العالمية. بدون إطار قانوني متين، يصعب جذب الاستثمارات أو تطوير الصناعات التقنية المحلية، ويصبح السوق عرضة للاختراقات وعدم الثقة. في هذا السياق، أرى أن القانون الرقمي بوصفه أداة تنظيمية هو عنصر أساسي في التنمية الاقتصادية الحديثة.
خلال عملي ومتابعتي، لاحظت أن غياب القانون الرقمي أو ضعف تطبيقه يؤدي إلى تضارب أحيانًا بين الحقوق الرقمية وباقي الحقوق الحياتية، ويخلق فراغًا قانونيًا يسعى بعض جهات غير محترمة لاستغلاله لأهداف سياسية أو تجارية. لهذا، تحرك بعض البلدان العربية نحو وضع تشريعات حديثة تتماشى مع المعايير الدولية مع الحفاظ على خصوصياتها المجتمعية والثقافية.
ختامًا، أرى أن القانون الرقمي في العالم العربي ليس فقط مسألة تقنية أو تنظيمية، بل هو مشروع حضاري يعكس رغبة الشعوب في التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وحماية الإنسان من مخاطر الرقمنة التي قد تهدّد خصوصيته وحقوقه. هو جسر يربط بين الحاضر الرقمي والمستقبل الذي نطمح إليه، مستندًا إلى قواعد متينة تحترم حقوق الإنسان، تدعم الحرية، وتوازن بين الابتكار والتنظيم.
ولهذا، أؤمن أن الاستثمار في بناء أُطر قانونية رقمية متكاملة هو من أهم الخطوات التي يجب أن تتخذها الدول العربية اليوم، لتكون مستعدة للتحديات الرقمية القادمة، وتضمن لشعوبها حقوقها وتحقيق تطلعاتها في عالم سريع التغيير.
