من المسؤول قانونيًا عن خطأ الذكاء الاصطناعي؟

أجد نفسي كثيرًا أتأمل في العلاقة المعقدة التي تربطنا بالذكاء الاصطناعي، ذلك الطفل الرقمي الذي صنعناه بأيدينا، والذي ينمو بسرعة خارقة، يصيب أحيانًا ويخطئ أحيانًا أكثر مما نتوقع. السؤال الذي يلازمني دائمًا هو: من المسؤول قانونيًا حين يخطئ هذا الطفل؟ من يحمل وزر ذلك الخطأ الذي من الممكن أن يتسبب بأذى إنساني أو اجتماعي أو اقتصادي؟ هل نلوم الإنسان الذي برمج؟ أم المستخدم الذي وظفه؟ أم التقنية نفسها التي باتت تتصرف بشكل مستقل إلى حد ما؟

بصفتي باحثًا مهتمًا بحوكمة الذكاء الاصطناعي وحماية البيانات، أرى أن الإجابة ليست بالبساطة التي قد نتصورها أولًا. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد آلة جامدة نبرمجها وننتظر منها تنفيذ الأوامر بدقة بلا أخطاء. إنه نظام يعالج كميات هائلة من البيانات، ويتعلم ويغير سلوكياته بناءً على تجاربه، وربما يتخذ قرارات لم يبرمجها أحد صراحة. هذا المزيج بين التعلم الذاتي والاعتماد الكامل على بناء بشري يخلق حالة فريدة من نوعها. المسؤولية في هذه الحالة لا يمكن أن توضع كلها على طرف واحد، بل هي شبكة من المسؤوليات تتداخل بين البشر والتقنية.

من ناحية إنسانية، أجد نفسي أتناقض أحيانًا في مشاعري تجاه الذكاء الاصطناعي. فأنا أشعر بالتحمس لما يمكن أن يحدث من تقدم يسهم في تحسين حياة البشر، وأعجب بسعة إمكانياتها في مجالات مثل الرعاية الصحية، تحليل البيانات، والتعليم. في الوقت نفسه، يعتصرني القلق من فقدان السيطرة التي قد تؤدي إلى نتائج كارثية، من أخطاء في التشخيص الطبي إلى حوادث سيارات ذاتية القيادة، أو حتى انتهاكات الخصوصية التي باتت سائدة بفضل الانتشار الواسع للأنظمة الذكية. هذا الشعور المتداخل بين التفاؤل والخوف هو جزء من تجربتي الشخصية وأعتقد أنه يعبر عن تجربة الكثيرين الذين يتابعون هذا التطور.

عندما أفكر في المسؤولية القانونية، أعود إلى جذور الفكرة التي تربط بين الإرادة والاختيار القانونية. الإنسان مسؤول لأنه يملك إدراكًا ونية وقدرة على اتخاذ القرار المدروس. الذكاء الاصطناعي، رغم ذكائه الحسابي، لا يمتلك هذه الصفات، فهو ليس كائنًا واعيًا أو مسؤولًا تعليمًا، بل هو انعكاس لأفعال ومهارات البشر الذين صمموه. من هذا المنطلق، أرى أن تحميل الذكاء الاصطناعي المسؤولية القانونية بالمعنى التقليدي غير منطقي. لكنني أدرك أن هذا لا يزيل التحدي الكبير في تطبيق القانون على تلك الأخطاء. فمن المسؤول تحديدًا؟ مبرمجو النظم؟ الشركات المالكة؟ المستخدمون؟ وأكثر من ذلك، ما هو القانون المناسب لدينا اليوم دون أن نلقي بظلال شديدة تقيد الابتكار؟

هذه الأسئلة لم تجد حتى الآن إجابات واضحة على المستوى العالمي. ففي أوروبا، ظهرت قوانين متطورة مثل اللوائح العامة لحماية البيانات (GDPR) التي وضعت معايير صارمة لحماية الخصوصية، ثم جاء قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي (AI Act) الذي دخل حيز التنفيذ في 2024، ويهدف إلى تنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي بدرجات متفاوتة من الخطورة. هو محاولة لتحديد مسؤوليات مقدمي الخدمات والمطورين، مع فرض رقابة طوعية أو إلزامية على النظم التي تشكل خطرًا عالياً، مثل أنظمة التعرف على الوجه التي يمكن أن تنتهك خصوصية الأفراد وحقوقهم الأساسية. لكن هذا القانون، رغم تفصيله، لا يقدم حلولًا سحرية للمسائل الجوهرية المتعلقة بالمسؤولية الجنائية أو المدنية بشكل واضح في كافة السيناريوهات الممكنة.

في التجربة الأمريكية، نجد نهجًا أكثر مرونة يترك هامشًا أوسع للابتكار والتطوير، مع بعض التنظيمات القطاعية، لكن دون وجود إطار قانوني موحد مثل الاتحاد الأوروبي. أما في الصين، فالتركيز ينصب على مراقبة صارمة، وربط الذكاء الاصطناعي بسياسات الرقابة الاجتماعية والسياسية، وهو نموذج يعكس ثقافة سياسية مختلفة تمامًا ويطرح أسئلة أخلاقية بشأن الاستخدام.

أجد أن هذه التباينات تعكس حقيقة أنه لا توجد وصفة واحدة تناسب الجميع، كما أنها ترينا كيف أن حقوق الإنسان، الخصوصية، الحريات، وحتى الابتكار الاقتصادي، كلها أبعاد يجب أن تؤخذ بالحسبان ضمن منظومة المسؤولية القانونية لضبط الذكاء الاصطناعي.

وفي حياتي البحثية، تابعت أيضًا نماذج حية من الخطأ والتداعيات التي خلفتها تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتي تؤكد أن المسألة ليست نظرية أو مستقبلية فقط. مثال ذلك الحوادث المتكررة لأنظمة قيادة سيارات ذاتية القيادة التي أدت إلى حوادث خطيرة، أو الأخطاء في تشخيصات طبية معتمدة على أنظمة ذكية، التي أدت إلى أضرار قانونية ومطالبات تعويض. أخطاء مثل تلك التي شهدها نظام Google AI Overviews الذي نشر معلومات مغلوطة أثرت على قرارات المستخدمين، مما أثار نقاشًا حادًا حول الحاجة لإجراء رقابة أكثر شفافية ومسؤولية على منتجات الذكاء الاصطناعي.

كذلك، يجب ألا نغفل عن ظاهرة “الهجمات السيبرانية المدعومة بالذكاء الاصطناعي” والتي استهدفت شبكات مستشفيات وأدت إلى توقف خدمات طبية حيوية في ألمانيا، مثال يبرز التحدي الكبير في تأمين الأنظمة الذكية وحماية الأمن القومي والإنساني في آن واحد. هذه الأمثلة تظهر بوضوح ليس فقط أهمية القوانين، بل الحاجة إلى وعي مجتمعي وتعاون متعدد القطاعات.

بالنهاية، أعتبر أن التساؤل الحقيقي حول المسؤولية القانونية عن خطأ الذكاء الاصطناعي هو انعكاس لتحدٍ أكبر: كيف نرسم حدودًا واضحة لمسؤولية الإنسان في عالم تتشابك فيه أدواته الذكية معه إلى حد يصبح فيه الفصل بين المبدع والمبدوع غامضًا؟ وكيف نحافظ على حرية الابتكار دون أن نترك الباب مفتوحًا أمام أزمات قد تكون كارثية؟

الذكاء الاصطناعي آلية وليست كيانًا أخلاقيًا، لذلك يقع على عاتقنا نحن البشر مسؤولية تطوير أطر قانونية وأخلاقية تنقذ الإنسان من نفسه ومن اختراعاته، نظامًا بتوازن دقيق يوازن بين الحماية والابتكار، الرقابة والحرية، المسؤولية الفردية والجماعية.

أنا أعيش في هذا العصر المزدوج: عصر الفرص والتحديات. وأؤمن أن الطريق للمستقبل الذي نحلم به لا يمر عبر ترك الذكاء الاصطناعي يتحرك بلا ضوابط، ولا عبر تشديد مطلق يحجب فائدة لا تُقدّر بثمن. هو مناخ يحتاج إلى رقابة شفافة، ثقافة محاسبية، ومجتمع واعٍ قادر على التحاور حول المخاطر والفرص، بعيدًا عن الخوف والتهويل.

وبذلك، المسؤولية عن أخطاء الذكاء الاصطناعي لن تكون يومًا مسؤولية هذا الكود الرقمي وحده. بل مسؤولية تاريخية وأخلاقية مشتركة نتحملها نحن جميعًا، كمهندسين ومشرعين ومستخدمين، وكلنا داخل هذا العصر الذي بات فيه الذكاء الاصطناعي مرايا لعصرنا كله.

مشاركة

موضوعات ذات صلة